لما
كان القرآن الكريم هو المصدر الأول والأساسي لشرائع الإسلام ، ورسالة محمد
عليه الصلاة والسلام ، وجه أعداء الإسلام سهامهم إليه بغرض إثارة الشبهات
حوله ، والتشكيك في مصدريته ، ومحاولة رفع الثقة عنه ، مستغلين في ذلك بعض
الروايات الواهية والإسرائيليات المبثوثة هنا وهناك لتأييد صحة دعواهم ،
فأخذوا يزيدون فيها ، ويحورونها بما يتفق ونواياهم الخبيثة في هدم الإسلام
وتشويه صورته باسم التحقيق العلمي والبحث الموضوعي .
نجد
ذلك على سبيل المثال في " دائرة المعارف الإسلامية " التي وضعت من قبل
المستشرقين للتعريف بدين الإسلام ، حيث يقول المستشرق الهولندي " شاخت "
تحت مادة (أصول ): " إن أول مصادر الشرع في الإسلام وأكثرها قيمة هو الكتاب
، وليس هناك من شك في قطعية ثبوته وتنزيهه عن الخطأ على الرغم من إمكان
سعي الشيطان لتخليطه " .
ويقول
بروكلمن في كتابه " تاريخ الشعوب الاسلامية " : " ولكنه – يعني الرسول صلى
الله عليه وسلم- على ما يظهر اعترف في السنوات الأولى من بعثته بآلهة
الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات اللّه ، ولقد أشار إليهن
في إحدى الآيات الموحاة إليه بقوله : ( تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن
ترتضى ) .
ويقول
المستشرق الدنماركي " بوهل " : " .... تشير الروايات الموثوقة المعتمد
عليها أنه سمح لنفسه أن تغوي بواسطة الشيطان لمدح اللات والعزى ومناة إلى
حدٍّ ما ، لكنه اكتشف زلته فيما بعد ثم أوحيت إليه الآية 19 من سورة النجم "
.
وأما
" مونتجومري وات " فقد قال في كتابه : " محمد الرسول والسياسي " : " رتَّل
محمد في وقت من الأوقات الآيات التي أوحى بها الشيطان على أنها جزء من
القرآن ، ثم أعلن محمد فيما بعد أن هذه الآيات لا يجب أن تعتبر جزءاً من
القرآن ، وقال : وكان يريد قبولها في الوهلة الأولى ...... " .
وهم
يشيرون بذلك إلى قصة الغرانيق التي أوردها بعض المفسرين وأصحاب المغازي
والسير ورويت بألفاظ مختلفة حاصلها أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان
بمكة ، فقرأ سورة النجم حتى انتهى إلى قولـه تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى }(النجم19-20)
، فجرى على لسانه : ( تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ) ، فسمع
ذلك مشركوا مكة ، فَسُرُّوا بذلك ، فاشتَدَّ على رسول الله - صلى الله عليه
وسلم- ، فأنزل الله تعالى قوله : {وما
أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته
فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم }(الحج 52).
وقد
اعتمد المستشرقون على هذه القصة مع أنها ظاهرة التهافت ، واضحة البطلان ،
مع تعرض الأئمة لها بالنقد من قديم الزمان وحتى عصرنا الحاضر ، لما فيها من
القدح في عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيما في مثل هذا الأمر
الخطير المتعلق بأمور الوحي والتبليغ والاعتقاد ، وجواز أن يجري الكفر على
لسانه ، وأن يزيد في القرآن ما ليس منه ، وأن يكون للشيطان عليه سبيل ،
وحينئذ ترتفع الثقة بالوحي جملة ، وينتقض الاعتماد عليه بالكلية ، وينهدم
أعظم ركن من أركان الشريعة ، وهو ما يريده أعداء الدين .
وسنناقش فيما يلي أوجه رد هذه القصة من حيث الرواية والدراية .
رد القصة من حيث الرواية
من
المعلوم أن الاحتكام في قبول الأحاديث أو ردها يجب أن يكون إلى القواعد
والضوابط التي وضعها أهل هذا الفن لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه ، فليس كل
ما يروى وينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- يلزم أن يكون من قوله ، ومن
تلك القواعد النظر في الأسانيد والرواة ، ولو تتبعنا أسانيد هذه القصة
فإننا سنجد أن الحديث الوارد فيها لم يرو موصولاً إلا عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وإن كان قد روي مرسلاً عن عدد من التابعين .
وجميع الطرق الموصولة إلى ابن عباس واهية شديدة الضعف لا يصح منها شيء ألبتة كما قال المحدثون .
وأما المرسلة فلا يصح منها إلا أربع روايات وهي رواية سعيد بن جبير و أبي العالية و أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث و قتادة .
وهذا
الروايات وإن صحت إليهم فإن ذلك لا يعني قبولها ، والاعتماد عليها لأنها
مراسيل ، والمرسل- كما هو معلوم عند جماهير المحدثين - في عداد الحديث
الضعيف ، وذلك لجهالة الواسطة ، واحتمال أن يكون غير صحابي ، وحينئذ يحتمل
أن يكون ثقة وغير ثقة ، فلا يؤمن أن يكون كذاباً .
قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه : " والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة " ، ومثله قال الإمام ابن الصلاح
في مقدمته : " ...و ما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضَعفه ،
هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفّاظ الحديث، و نقاد الأثر، و قد
تداولوه في تصانيفهم ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية ( 7/435) : " وأما أحاديث سبب النزول فغالبها مرسل ليس بمسند ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل : " ثلاث علوم لا إسناد لها ، وفي لفظ ليس لها أصل : التفسير والمغازي والملاحم ويعني أن أحاديثها مرسلة " .
ولو نظرنا فيمن صحت عنه هذه المراسيل لوجدناهم من طبقة واحدة ، فوفاة سعيد بن جبير سنة (95) و أبي بكر بن عبد الرحمن سنة (94)، و أبي العالية سنة (90) ، و قتادة سنة بضع عشرة و مائة ، و الأول كوفي ، و الثاني مدني ، و الأخيران بصريان .
فجائز
أن يكون مصدرهم الذي أخذوا عنه هذه القصة واحداً ، وجائز أن يكون جمعاً
ولكنهم جميعاً ضعفاء ، ومع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئن النفس لقَبول
حديثهم هذا ، لا سيّما في مثل هذا الأمر العظيم الذي يمسّ مقام النبوة ،
فلا جرم حينئذ أن يتتابع العلماء على إنكار هذه الرواية والتنديد ببطلانها .
فقد سئل عنها الإمام بن خزيمة فقال : " هذه القصة من وضع الزنادقة " نقل ذلك الفخر الرازي في تفسيره (23/44) ، ونقل عن الإمام البيهقي قوله : " هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل " .
وقال ابن حزم
في كتاب " الفصل في الأهواء والنحل " (2/311) : " وأما الحديث الذي فيه :
( وأنهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى ) فكذب بحت موضوع ، لأنه لم
يصح قط من طريق النقل ، ولا معنى للاشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه
أحد " اهـ .
وقال القاضي عياض
في الشفا (2/79) : " هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة
بسند سليم متصل....، ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم
يسندها أحد منهم ، ولا رفعها إلى صاحب ، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية
، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال فيما أحسب - الشك في الحديث - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان بمكة ....، وذكر القصة " ، ثم نقل كلام البزار وقال : " فقد بين لك أبو بكر رحمه
الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا ، وفيه من الضعف ما نبه عليه ،
مع وقوع الشك فيه ، كما ذكرناه ، الذي لا يوثق به ، ولا حقيقة معه .
قال : وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الراوية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البراز رحمه الله ، والذي منه في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قرأ : (والنجم ) وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس " اهـ .
وقال الحافظ ابن كثير في
تفسيره (3/239) : " قد ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق ، وما كان من
رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ،
ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والله أعلم " .
اهـ .
وقال الشوكاني :" ولم يصح شيء من هذا ، ولا يثبت بوجه من الوجوه " .
وهذا هو مذهب أكثر المفسرين والمحدثين ، وممن ذهب إليه الجصاص ، و ابن عطية و أبو حيان ،و السهيلي ،و الفخر الرازي ،و القرطبي ،و بن العربي ،و الآلوسي ، و أبو السعود ، و البيضاوي ، و القاسمي و الشنقيطي ، و المنذري ، و الطيبي ، و الكرماني و العيني وغيرهم .
ولولا
الرغبة في الاختصار لاستعرضنا هذه الروايات وعللها ، وكلام أهل العلم
عليها على وجه التفصيل ، ومن أراد الاستزادة حول الروايات والطرق فليرجع
إلى كتاب الشيخ الألباني رحمه الله : " نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق " ، وكتاب " التحقيق في قصة الغرانيق " لأحمد بن عبد العزيز القصير .
رد القصة من حيث الدراية
ومع
كون الرواية لا تثبت من جهة الإسناد ، فهناك عدة دلائل في المتن يستحيل
معها ثبوت مثل هذا الكلام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ومن ذلك :
أولاً
: مصادمة القصة لصريح القرآن ، وذلك لأن ما تفيده هذه القصة مخالف مخالفة
صريحة لآيات كثيرة في القرآن ، تنص على أن الله جل وعلا لم يجعل للشيطان
سلطاناً على النبي - صلى الله عليه وسلم- وإخوانه من الرسل وأتباعهم
المخلصين ، مثل قوله تعالى : {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } (الإسراء 65 ) ، وقوله سبحانه : {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } (النحل 99- 100 ) ، وقوله سبحانه {وما كان له عليهم من سلطان } (سبأ 21 ) ، وقوله : {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } ( إبراهيم 22) ، وأي سلطان أعظم من أن يلقي الشيطان على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم – هذه العبارة الشركية الصريحة .
هذا عدا عن مصادمتها للآيات الصريحة التي تفيد حفظ الذكر وصيانته من التحريف والتبديل ، والزيادة والنقص ، كقوله سبحانه : {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ( الحجر 9) ، وقوله : {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه }( فصلت 42) ، وقوله تعالى : {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى }(النجم 3- 4 ) ، ومن المعلوم أن من الأسباب التي يرد بها الخبر مناقضته الصريحة والواضحة للقرآن .
ثانياً
: أنه قد قام الدليل القطعي ، وانعقد الإجماع على عصمته - صلى الله عليه
وسلم - من جَرَيان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمداً ولا سهواً ، أو أن
يتقول على الله لا عمداً ولا سهواً ما لم ينزل عليه ، قال تعالى : {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي } (يونس 15) وقال جل وعلا : {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين }(الحاقة 44- 46) ، و قال : { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلاً * إذاً لأذقناك ضِعف الحياة و ضِعفَ الممات }( الإسراء 74- 75) ، وهذه الرويات تناقض تماماً دليل العصمة .
ثالثاً
: أن سياق الآيات نفسها من سورة النجم - والتي ذُكر في الرواية أنه تخللها
إلقاء الشيطان- فيها قرينة واضحة على بطلان هذه الرواية ، لأنه لو كان
السياق كما ذكرت الرواية : ( أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى –
تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى - ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا
قسمة ضيزى * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل بها من سلطان )
، لكان في الكلام من الاضطراب والتناقض وعدم الانسجام ما ينزه عنه العقلاء
من البشر فكيف بكلام الله جل وعلا الذي هو أفصح الكلام وأبينه ، إذ ليس من
المعقول أن يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - آلهة المشركين ثم يذمها في
أربع آيات متعاقبة ، ويبين أنها أسماء سموها ما أنزل الله بها من سلطان .
لا
شك أن مثل هذا لا يخفى على من له أدنى تأمل في الكلام ؟ فضلاً عن فصحاء
العرب وبلغائهم الذين كانت الكلمة بضاعتهم ، ونظم القصائد ونقد العبارة
حديث مجالسهم وأسواقهم ، فهل كان يخفى عليهم مثل هذا الكلام المتناقض ؟! .
رابعاً : أن بعض روايات القصة ذكرت أن فيها نزل قوله تعالى : {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلاً * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً } (سورة الإسراء 73- 74 ) .
وهاتان
الآيتان تردان القصة ، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه ولولا أن
الله ثبته لكاد أن يركن إليهم ، مما يدل على أن الله عصمه حتى لم يكد يركن
إليهم قليلاً فكيف كثيراً ، فنفى عنه قرب الركون فضلاً عن الركون نفسه ،
وهذه القصة تدل على أنه زاد على الركون بل والافتراء بمدح آلهتهم ، وأنه -
صلى الله عليه وسلم – قال كما في بعض الروايات– وحاشاه من ذلك - : " افتريت
على الله ، وقلت ما لم يقل " وهذا ضد مفهوم الآية ، ومن أوضح الأدلة على
بطلان القصة .
خامساً
: من المعلوم أن مشركي قريش كانوا أحرص الناس على دفع نبوة محمد - صلى
الله عليه وسلم - ودحض حجته ، والتشكيك في رسالته ، والبحث عن أي مدخل يمكن
أن ينفذوا من خلاله ، ولو صحت هذه القصة لكانت من الشهرة والذيوع واستمساك
المشركين بها ما يغنيهم عن تكلف المشاق ، وبذل المهج والأرواح ، ولوجدوا
بها الصولة على المسلمين ، ولتسببت في إحداث فتنة لكثير ممن أسلم ، ومع ذلك
لم يرو عن معاندٍ فيها كلمة ، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئًا سوى هذه
الرواية الضعيفة الأصل ، مما يدل على بطلانها واجتثاث أصلها .
سادساً : أن الحديث المروي من طرق صحيحة متعددة في الصحيحين وغيرهما عن عدد من الصحابة كابن عباس و ابن مسعود و ابن عمر و أبي هريرة وغيرهم : ( أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ) وليس في هذه الطرق أي ذكر لقصة الغرانيق ، ولو كانت صحيحة لنقلت عبر هذه الأسانيد .
سابعاً
: أنه مع ضعف هذه الروايات و انقطاع أسانيدها ، فإن الاضطراب الحاصل في
متنها واختلاف كلماتها أمر بين ظاهر ، فقائل يقول : إن ذلك حصل منه عليه
الصلاة والسلام وهو في الصلاة ، وآخر يقول : قالها في نادي قومه حين أنزلت
عليه السورة ، وآخر يقول : قالها وقد أصابته سِنةٌ من نوم ، وآخر يقول : بل
حَدَّثَ نفسه فسها ، وآخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه وإن النبي -
صلى الله عليه و سلم- لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا أقرأتك؟! ، وآخر
يقول : بل أعلمهم الشيطان أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قرأها ، فلما بلغ
النبي - صلى الله عليه وسلم- ذلك ، قال : والله ما هكذا أنزلت ، إلى غير
ذلك من اختلاف الرواة الذي يضعف به الحديث لاضطرابه وإن صح سنده ، فكيف إذا
اجتمع مع اضطراب المتن ضعف السند .
معنى الآية
والأقرب في معنى قوله تعالى في سورة الحج : {
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته
فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم }(الحج
52) ، سواء قلنا إن لفظ تمنى بمعنى قرأ وتلا - وهو ما عليه جمهور المفسرين
– أو قلنا بأنه من التمني المعروف الذي أداته " ليت " ، أن يقال : إن
إلقاء الشيطان هو ما يقذفه من الشبه والوساوس والشكوك والمعاني الباطلة
للصد عن دين الله عز وجل ، والتكذيب بالقرآن .
فعلى
القول بأن تمنى بمعنى قرأ وتلا يكون المعنى : ما من نبي ولا رسول إلا إذا
قرأ وتلا ألقى الشيطان عند قراءته من الشبه والوساوس ليصد الناس عن اتباع
ما يقرؤه الرسول أو النبي ، كإلقائه عليهم أن هذه الآيات سحر أو شعر أو
أساطير الأولين ، وأنها مفتراة على الله ليست منزلة من عنده .
وعلى
القول بأنه من التمني المعروف يكون المعنى : ما من نبي ولا رسول إلا إذا
تمنى هداية قومه وإيمانهم ألقى الشيطان في سبيل أمنيته العقبات ، من الشبه
والوساوس والشكوك للصد عن دين الله ، حتى لا يتم للنبي أو الرسول ما تمناه .
فينسخ
الله تلك الشُّبَه والوساوس التي ألقاها الشيطان ، بمعنى أنه يبطلها
ويذهبها ، لأن النسخ هنا هو النسخ اللغوي : ومعناه الإبطال والإزالة ، ثم
يحكم آياته فلا يبقى إلا الحق الذي أراده سبحانه.
ومما
يؤكد أن هذا هو الأقرب في معنى الآية ، أن الله جل وعلا بين أن الحكمة في
هذا الإلقاء المذكور في الآية إنما هو الابتلاء والامتحان فقال سبحانه : { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم } ( سورة الحج53) . ثم قال : {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم }( سورة الحج 54) .
فقوله : {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق }
يدل على أن الشيطان يلقي عليهم أن الذي يقرأه النبي ليس بحق ، فيصدقه
الأشقياء ويكون ذلك فتنة لهم ، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم والإيمان
، ويعلمون أنه الحق لا الكذب كما يزعم الشيطان في إلقائه ، ومثل هذا
الامتحان لا يناسب شيئا زاده الشيطان من نفسه في القراءة .
ومما
يشهد لهذا المعنى نظائر كثيرة من الآيات تبين دور الشيطان في الصد عن سبيل
الله وزخرفة الباطل ، وفتنة الذين في قلوبهم مرض كقوله تعالى : {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون } (الأنعام 112) ، وقوله : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } (الأنعام 121) ، وقوله : {وما
جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا
ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين
أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد
الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } ( المدثر31 ) ، وقوله : {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن } (الإسراء 60 ) ، وقوله في الآية الأخرى : {أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم } (الصافات 62-64 ) .
وأما
سجود المشركين في آخر سورة النجم كما هو ثابت في الصحيح وغيره ، فليس فيه
ما يدل على ثبوت هذه القصة أبداً ولا على أنهم فهموا من ذلك ما يشعر بمدح
آلهتهم ، لأنه يمكن أن يكون سجودهم لأسباب عدة منها :
أن
يكون لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة خصوصاً وقد ورد في آخرها
من الوعيد الشديد ، وإهلاك الله للأمم قبلهم وذلك في قوله : {وأنه أهلك عاداً الأولى * وثمود فما أبقى * وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى * والمؤتفكة أهوى * فغشاها ماغشى }
( النجم : 50- 54) ولم يكونوا قد سمعوا مثل هذا الوعيد منه - صلى الله
عليه وسلم- قبل ذلك ، وهو في هذا المقام وهذا الجمع بين يدي ربه سبحانه ،
فاستشعروا نزول هذا العذاب بهم .
ومثله ما حصل لعتبة بن ربيعة حين قرأ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- آيات من سورة فصلت وهي قوله سبحانه :{فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }(
فصلت 13) فأمسك عتبة بفم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وناشده بالرحم
واعتذر لقومه ، حين ظنوا به أنه صبأ ، وقال : " كيف وقد علمتم أن محمداً
إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب " أخرجه البيهقي في الدلائل .
ويمكن أن يكون سبب سجودهم كما قال ابن مسعود أنها أول سجدة نزلت ، ويمكن أن يكونوا أرادوا بسجودهم معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم .
ويمكن
أن يكونوا سجدوا لله جل وعلا لأن المشركين ما كانوا ينكرون عبادة الله
وتعظيمه ، ولكنهم كانوا يعبدون معه آلهة أخرى كما أخبر الله عنهم ، فكان
هذا السجود من عبادتهم لله .
فتلخص
من ذلك أن هذه القصة الواردة في سبب نزول الآية ضعيفة بل باطلة ، وكل
الروايات الواردة فيها معلَّة إما بالإرسال ، أو الضعف ، أو الجهالة ، وليس
فيها ما يصلح للاحتجاج به ، لا سيّما في مثل هذا الأمر الخطير ، الذي يمس
مقام نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم- ، فضلاً عن الاضطراب الحاصل في
متن الروايات كما سبق بيانه ، وبذلك يتضح
أن هذه الآية لا يصح في سبب نزولها شيء ، وأن معناها ما سبق بيانه من
وسوسة الشيطان وكيده وحرصه على إغواء الناس وصدهم عن سبيل الله .