من
المعلوم أن الله جل وعلا أرسل الرسل وأنزل الكتب لتوحيده وعبادته ، وأن
هناك أصولاً مشتركة اتفقت عليها جميع الأديان والرسالات ، فالعقائد وأصول
الفضائل والأخلاق والآداب ، والضرورات التي جاءت جميع الشرائع بحفظها ، هذه
أمور مقررة في كل دين ، ولا تختلف باختلاف الأزمان ، ولا باختلاف الرسالات
قال سبحانه:{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه }(الشورى 13) ، وقال سبحانه : {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }(الانبياء 25) .
وأما
تفصيلات الشرائع العملية ، فهي تختلف من دين لآخر ، فما يصلح لزمان قد لا
يصلح لزمان آخر ، وما يلائم طبيعة قوم قد لا يلائم آخرين ، ولذا قال سبحانه
: { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }(المائدة 48) .
ثم
إن الكتب السماوية السابقة قد طواها الزمن ولم يصل إلينا منها غير التوراة
والإنجيل ، ولم يسلما مع ذلك من التحريف والتبديل ، وأما القرآن فقد كتب
الله له الخلود ، وحفظه من الضياع والتحريف والتبديل ، فجاء مصدِّقاً لما
سبقه من الكتب ، مؤكداً على الجانب الذي دعا إليه كل الأنبياء ، وقامت عليه
جميع الرسالات .
وفي
الوقت نفسه جاء مهيمناً وحاكما وشاهداً عليها ، يبين ما طرأ عليها من
تحريف وتغيير وتبديل ، فما وافقه منها فهو حق ، وما خالفه فهو باطل ، وقد
وصفه الله بهذين الوصفين بقوله :{ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه }(المائدة 48) .
وقد
كان لاختلاط المسلمين بأهل الكتاب ومجاورتهم لهم ، ودخول كثير منهم في
الإسلام ، أثره في نقل كثير من أخبارهم إلى المسلمين ، وهو ما اصطلح عليه
العلماء بـ " الإسرائيليات " من باب التغليب ، وإلا فإنه يشمل أخبار أهل
الكتابين معاً اليهود والنصارى على حد سواء .
ولعل
مما أسهم في انتقال تلك الأخبار أن من منهج القرآن في سرد القصص والحوادث
الاقتصار على مواضع العظة والعبرة ، وعدم التعرض للتفاصيل والجزئيات ،
والنفوس تتشوف لمعرفة جزئيات الحوادث ، وتفصيل مجملات القصص ، وأخبار بدء
الخلق والتكوين وما أشبه ذلك ، أضف إلى ذلك وجود الإذن النبوي في التحديث
عن بني إسرائيل من غير حرج ، فكان بعض الصحابة رضي الله عنهم يسألون عن ذلك
بالقدر الذي يرون أنه موضح للقصة ، ومبين لما أجمل في القرآن ، من غير أن
يخرجوا عن دائرة الجواز والإذن النبوي .
ولكن
الناس بعد ذلك توسعوا في رواية هذه الأخبار فدخلت كثير من أباطيل أهل
الكتاب وخرافاتهم وترهاتهم على المسلمين، ونسب الكثير منها إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم ، وإلى صحابته رضوان الله عليهم وإلى أئمة الإسلام ، حتى
اتخذها بعض المتأخرين مادة يشرحون بها نصوص القرآن وملئت بها كتب التفسير ،
مما شكل خطراً بالغاً على عقائد المسلمين بما تضمنته من تشبيه لله تعالى ،
ووصفه بما لا يليق بجلاله وكماله ، وبما يتنافى مع عصمة الأنبياء
والمرسلين ، إضافة إلى تشويهها لصورة الإسلام ، وتصويره في صورة دين خرافي
يستخف بالعقول ويعنى بالترهات والأباطيل .
وقد
دخل في الحديث من ذلك ما دخل في التفسير ، وكان الذين دسوا مثل هذه
الأخبار ونسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم - في الأعم الأغلب طائفتان
هما : الزنادقة الذين أظهروا الإسلام ودخلوا فيه عن خبث طوية بغرض الطعن
والافتراء ، والقصاص الذي روجوا لتلك الأخبار ليستميلوا وجوه العوام إليهم ،
ويستدروا ما عندهم عن طريق التحديث بالمناكير والغرائب والأكاذيب ، وقد
وجدت هاتان الطائفتان في مرويات أهل الكتاب وأساطير القدماء مادة خصبة
لتحقيق أغراضهم .
ولم
يكن أمرهم ليخفى على المحدِّثين الذين تصدوا لهذه الظاهرة ، وكشفوا حقيقة
هذه الأخبار وبينوا زيفها وكذبها ، ووزنوا الروايات بميزان دقيق ، وطبقوا
عليها منهجهم الفريد في النقد وسبر المرويات ، شأنها شأن غيرها من الأخبار
المختلقة الموضوعة ، كما يظهر ذلك من خلال ما كتبوه في علوم الحديث ،
وتراجم الرجال ، والأحاديث الموضوعة ، والمشتهرة على الألسنة ، إلى غير ذلك
.
ومع
ذلك اتخذت هذه الإسرائيليات - مع الأسف الشديد - مدخلاً للطعن في أئمة
الإسلام وعلمائه ممن كان لهم في الإسلام قدم راسخة ، حتى كادت تذهب بالثقة
في بعض الصحابة والتابعين ، الذي عرفوا بالثقة والديانة ، واشتهروا بين
المسلمين بالتفسير والحديث ، وذلك بسبب ما أسند إليهم من هذه الإسرائيليات ،
حيث اتهموا بأبشع الاتهامات من قبل بعض المستشرقين ومن مشى في ركابهم ،
وعدُّوهم مضللين مدسوسين على الإسلام وأهله .
وإليك
طائفة من أقوالهم لترى كيف اتفقت كلمتهم ، وتوحدت آراءهم ، وكأنها خرجت من
مشكاة واحدة ، مما يدل على وحدة المصدر والهدف والغاية .
يقول " جولد زيهر " في كتاب " المذاهب الإسلامية في التفسير " : " ومن بين المراجع العلمية المفضلة عند ابن عباس نجد أيضاً كعب الأحبار اليهودي ، و عبد الله بن سلام ، وأهل الكتاب على العموم ممن حذر الناس منهم ، كما أن ابن عباس نفسه
في أقواله حذر من الرجوع إليهم ، ولقد كان إسلام هؤلاء عند الناس فوق
التهمة والكذب ، ورُفِعوا إلى درجة أهل العلم الموثوق بهم ..... ورجعوا
إليهم سائلين عن هذه المسائل بالرغم من التحذير الشديد - من كل جهة - من
سؤالهم " أهـ .
وتبعه أحمد أمين على
هذا الرأي حيث قال في " فجر الإسلام " : " وقد دخل بعض هؤلاء اليهود في
الإسلام ، فتسرب منهم إلى المسلمين كثير من هذه الأخبار ، ودخلت في تفسير
القرآن يستكملون بها الشرح ، ولم يتحرج حتى كبار الصحابة مثل ابن عباس عن أخذ أقوالهم ، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ) " ولكن العمل كان على غير ذلك ، وأنهم كانوا يصدقونهم وينقلون عنهم " أهـ .
وقال في "ضحى الإسلام " : " كذلك أدخل مسلمة أهل الكتاب أقوالاً من الإنجيل دست على أنها أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وأما الشيخ رشيد رضا
فقد كان من شدة إنكاره للإسرائيليات وتعنيفه على من روجوا لها ، ربما أخذه
الحماس إلى حدِّ النيل والطعن في بعض من نسبت إليهم هذه الإسرائيليات بحق
أو بباطل ، وإلى حدِّ غمْزِ المحدثين ورميهم بالتقصير وقلة الاطلاع
والاغترار بهم ، لأنهم وثَّقوهم وخرَّجوا أحاديثهم .
حيث قال في مجلة المنار : " ونحن نعلم أن أبا هريرة روى عن كعب وكان يصدقه . ...... ومثل هذا يقال في ابن عباس وغيره ممن روى عن كعب ، وكان يصدقه " ، وقال في موضع آخر وهو يناقش بعض الكتاب : " ولا يهولنه انخداع بعض الصحابة والتابعين بما بثاه - يقصد كعب الأحبار و وهب بن منبه - هما وغيرهما من هذه الأخبار فإذا صدق بعض الصحابة ، كعب الأحبار في
بعض مفترياته التي كان يوهمهم أنه أخذها من التوراة أو غيرها من كتب
أنبياء بني إسرائيل ، وهو من أحبارهم أو في غير ذلك ، فلا يستلزم هذا إساءة
الظن فيهم " أهـ .
وقال : " ثم ليعلم أن شرَّ رواة هذه الإسرائيليات ، أو أشدهم تلبيساً وخداعاً للمسلمين هذان الرجلان " واستَشْهد بما جاء في صحيح البخاري عن معاوية في شأن كعب : " إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب " .
وأما
" محمود أبو رية " فقد كان أشد القوم إسفافاً وطعناً وتجنياً على الصحابة
والتابعين حيث عقد فصلاً في كتابه " أضواء على السنة المحمدية " بعنوان : "
الإسرائيليات والحديث "بين فيه منشأها حسب زعمه ، وتعرض لعبد الله بن سلام و كعب الأحبار و وهب بن منبه
، وأمثالهم من علماء أهل الكتاب الذي أسلموا وحسن إسلامهم ، متهماً إياهم
بالمكر والدهاء ، والتظاهر بالدخول في الإسلام للطعن والدس فيه ، وهدم
أصوله وأركانه ، ونال أكثر ما نال من كعب واعتبره
الصهيوني الأول ، وصوَّر الصحابة في صورة البُلَهاء السُّذَّج المغرر بهم
الذين يصدقون كل ما يلقى إليهم من غير وعي ولا تمحيص .
يقول " أبو رية " : " وقد كان أقوى هؤلاء الكهان دهاء وأشدهم مكراً ، كعب الأحبار و وهب بن منبه ، و عبد الله بن سلام
ولما وجدوا أن حيلهم قد راجت بما أظهروه من كاذب الورع والتقوى ، وأن
المسلمين قد سكنوا إليهم ، واغتروا بهم ، جعلوا أول همهم أن يضربوا
المسلمين في صميم دينهم ، وذلك بأن يدسوا إلى أصوله التي قام عليها ما
يريدون من أساطير وخرافات ، وأوهام وترهات ، لكي تهي هذه الأصول وتضعف ،
ولما عجزوا عن أن ينالوا من القرآن الكريم لأنه قد حفظ بالتدوين ، واستظهره
آلاف من المسلمين ، وأنه قد أصبح بذلك في منعة من أن يزاد فيه كلمة أو
يتدسس إليه حرف اتجهوا إلى التحدث عن النبي فافتروا ما شاءوا أن يفتروا
عليه من أحاديث لم تصدر عنه " .
إلى
أن قال : " ويسر لهم كيدهم أن وجدوا الصحابة يرجعون إليهم في معرفة ما لا
يعلمون من أمور العالم الماضية ، واليهود بما لهم من كتاب ، وما فيهم من
علماء ، كانوا يعتبرون أساتذة العرب فيما يجهلون من أمور الأديان السابقة ،
إن كانوا مخلصين صادقين " .
ثم
قال : " وأنى للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من أقوالهم ، وهم
من ناحية لا يعرفون العبرانية التي هي لغة كتبهم ، ومن ناحية أخرى كانوا
أقل منهم دهاء وأضعف مكراً ، وبذلك راجت بينهم سوق هذه الأكاذيب ، وتلقى
الصحابة ومن تبعهم كل ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص ، معتبرين
أنه صحيح لا ريب فيه " أهـ .
وهذا الكلام كله يمكن إجمال الرد عليه في محورين رئيسين :
الأول : ما يتعلق باتهام الصحابة بالتوسع في الأخذ عن أهل الكتاب ، من غير وعي ولا تمحيص ، ورميهم بالانخداع والغفلة والسذاجة .
الثاني
: ما يتعلق بالطعن في بعض من أسلموا من أهل الكتاب ، وحَسُن إسلامهم
وعُرِفوا بالعلم والفضل ، والعدالة والثقة والعدالة ، واتهامهم بأن غرضهم
الدسيسة والكيد للإسلام وأصوله .
أما
قضية أخذ بعض الصحابة عن أهل الكتاب ، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا
أعلم الناس بأمور دينهم ، وقد خصهم الله بالعلم والفهم ، والورع والتقى ،
وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحدٍ بعدهم ، ومن شكَّ في ذلك
فعليه أن يراجع دينه وإيمانه ، قال الإمام الشافعي
في الرسالة القديمة ، بعد أن ذكرهم وذكر من تعظيمهم وفضلهم : " وهم فوقنا
في كل علم واجتهاد ، وورع وعقل ، وأمرٍ استُدْرِك به عليهم ، وآراؤهم لنا
أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا " .
وما ثبت من أن بعض الصحابة كأبي هريرة و ابن عباس وغيرهما
كانوا يرجعون إلى بعض من أسلم من أهل الكتاب ، فهو أمر لا يعيبهم ولا ينقص
من قدرهم وعلمهم وذلك لأمور منها : أنهم لم يخرجوا عن دائرة الجواز التي
حدّها لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذن لهم فيها بقوله : " بلغوا عني ولو آية ، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " رواه البخاري .
وفي الوقت نفسه لم يخالفوا النهي الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا .... الآية " رواه البخاري .
ولا
تعارض بين هذين الحديثين ، فإن الأول أباح لهم أن يحدِّثوا عما وقع لبني
إسرائيل من الأعاجيب لما في أخبارهم من العبرة والعظة ، بشرط أن يعلموا أنه
ليس مكذوباً ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجيز التحدث بالكذب .
وأما
الحديث الثاني فالمراد منه التوقف فيما يحدّث به أهل الكتاب إذا كان
محتملاً للصدق والكذب ، لأنه ربما كان صدْقاً في واقع الأمر فيكذبونه ، أو
كذباً فيصدقونه فيقعون بذلك في الحرج .
فهذا
النوع من الأخبار المحتملة للصدق والكذب هو الذي نهينا عن تصديقه أو
تكذيبه ، وليس المراد منه ما جاء شرعنا بموافقته أو مخالفته ، فإن الموقف
منه واضح ومعروف .
ومن
هنا يتبين لنا أنه لا تعارض بين إذنه - صلى الله عليه وسلم - بالتحديث عن
بني إسرائيل ، وبين نهيه عن تصديقهم أو تكذيبهم ، كما يتبين لنا القدر الذي
أباحه الشارع من الرواية عن أهل الكتاب .
إذاً
فالصحابة رضي الله عنهم كان لديهم منهج سديد ، ومعيار دقيق في قبول ما
يلقى إليهم من الإسرائيليات ، فما وافق شرعنا قبلوه ، وما خالفه كذبوه ،
وما كان مسكوتاً عنه توقفوا فيه .
ثم
إنهم لم يكونوا يرجعون إليهم في كل أمر ، وإنما كانوا يرجعون إليهم لمعرفة
بعض جزئيات الحوادث والأخبار ، ولم يُعرف عنهم أبداً أنهم رجعوا إليهم في
العقائد ولا في الأحكام ، ولو ثبت أنهم سألوا أهل الكتاب عن شيء يتعلق
بالمعتقد فلم يكن ذلك عن تهوك منهم وارتياب ، وإنما كان لإقامة الحجة عليهم
، بالاستشهاد والتأييد لما جاء في شريعتنا ، عن طريق الاحتجاج عليهم بما
يعتقدون .
أما إنكار الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر أن عمر بن الخطاب أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - فغضب وقال ( أمتهوكون فيها يا بن الخطاب والذي
نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق
فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده لو أن موسى - صلى الله عليه وسلم - كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني )) .
وإنكار بعض الصحابة - كابن عباس نفسه - على من كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب بقوله - كما في البخاري
: " يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه -
صلى الله عليه وسلم- أحدث الأخبار بالله ، تقرؤونه لم يشب ، وقد حدثكم
الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله ، وغيروا بأيديهم الكتاب ، فقالوا هو
من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن
مساءلتهم ، ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم " .
هذا
الإنكار لا يعارض الجواز والإذن الثابت في نصوص أخرى ، لأنه كان في مبدأ
الإسلام ، وقبل استقرار الأحكام ، وأما الإباحة فجاءت بعد أن عرفت الأحكام
واستقرت ، وذهب خوف الاختلاط والتشويش ، قال الحافظ بن حجر
رحمه الله : " وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية ، والقواعد
الدينية ، خشية الفتنة ، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك ، لما في
سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار " أهـ .
كما
أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يسألون عن الأشياء التي يشبه أن يكون
السؤال عنها نوعاً من اللهو والعبث ، كالسؤال عن لون كلب أهل الكهف ،
والبعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ، ومقدار سفينة نوح ، ونوع خشبها ،
واسم الغلام الذي قتله الخضر ، وغير ذلك مما يعد السؤال عنه قبيحاً ، ومن
قبيل تكلف ما لا يعني ، وتضييع الأوقات في غير طائل ، الأمر الذي ينزه عنه
صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومما
يدل أيضاً على أن الصحابة لم يكونوا يتلقفون كل ما يصدر عن أهل الكتاب دون
نقد وتمحيص تلك المراجعات العديدة ، والردود العلمية على بعض أهل الكتاب ،
في أمور أنكروها ، وردوا عليهم خطأهم فيها .
ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال : (( فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه الله إياه
)) ، فقد اختلف السلف في تعيين هذه الساعة ، وهل هي باقية أم رفعت ؟ وإذا
كانت باقية فهل هي في جمعة واحدة من السنة ، أو في كل جمعة منها ؟ .
وقد سأل أبو هريرة رضي الله عنه كعب الأحبار عن ذلك فأجابه كعب بأنها في جمعة واحدة من السنة ، فرد عليه أبو هريرة قوله هذا ، وبين له أنها في كل جمعة ، ولما رجع كعب إلى التوراة ، وجد أن الصواب مع أبي هريرة فرجع إليه ، كما في الموطأ .
كما سأل أبو هريرة أيضاً عبد الله بن سلام عن تحديد هذه الساعة قائلاً له : " أخبرني ولا تَضِنَّ عليَّ " ، فأجابه عبد الله بن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة ، فرد عليه أبو هريرة بقوله : " كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلِّي " ، وتلك الساعة لا يصلَّّى فيها ؟ .... أخرجه أبو داود وغيره .
ومن ذلك أيضاً ما رواه ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس أنه قال : " المفدي إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحق وكذبت اليهود " .
ولما بلغه أن نوفاً البكالي - وهو ربيب كعب الأحبار - ، يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس بموسى الخضر : قال : " كذب " حدثنا أبي بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وساق الحديث الذي عند البخاري في قصة موسى مع الخضر .
وذكر ابن كثير في تفسيره أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ،قال لكعب منكِراً : " أنت تقول : " إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا ؟ " فقال له كعب : " إن كنت قلت ذلك ، فإن الله تعالى قال : {وآتيناه من كل شيء سببا }( الكهف 84) ، قال ابن كثير معلقاً : " وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب هو الصواب ، والحق مع معاوية في ذلك الإنكار " .
فهذا
كله وغيره يؤكد على أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا مغفلين مخدوعين
يصدقون كل ما يلقى إليهم ، بل كانوا يتحرون الصواب ، ويردون على أهل الكتاب
أقوالهم التي تستحق الرد والمراجعة .
فهل
يعقل بعد هذا ، وبعد ما عرفناه من عدالة الصحابة وحرصهم على امتثال أوامر
الله ورسوله ، وعدم تسليمهم لأهل الكتاب كل ما يروونه من إسرائيليات ، أن
نقول بتهاونهم ، ومخالفتهم لتعاليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضلاً
عن رميهم بالغفلة وعدم الفطنة ، اللهم إنا نبرأ إليك من ذلك .
وأما
يتعلق بالمحور الثاني من هذا الموضوع فإن أي باحث منصف لا ينكر أن الكثير
من الإسرائيليات قد دخلت في الإسلام عن طريق أهل الكتاب الذين أسلموا ،
وأنهم نقلوها بحسن نية ، ولا ينكر أيضاً أثرها السيئ في كتب العلوم ،
وأفكار العوام من المسلمين .
ولكن الذي لا يسلم به أن يكون عبد الله بن سلام و كعب الأحبار و وهب بن منبه وأضرابهما - ممن أسلموا وحسن إسلامهم - كان غرضهم الدس والاختلاق والإفساد في الدين .
فعبد الله بن سلام
كان من خيار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن علماء أهل
الكتاب الذين جمعوا علم التوراة وعلم الإنجيل ، ولا يوجد من أئمة الإسلام ،
وعلماء الحديث الذين نقدوا الرجال من ناله بتهمة ، أو مسَّه بتجريح ، بل
وجدناهم يعدلونه ويوثقونه ، ولهذا اعتمده البخاري وغيره من أهل الحديث ، مما يدل على مبلغ علمه وسلامة دينه .
كيف وقد شهد له - صلى الله عليه وسلم - بالجنة كما في البخاري عن سعد بن أبي وقاص ، قال : ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام قال : وفيه نزلت هذه الآية :{ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله .... }الآية ( الاحقاف 10) .
ومعاذ الله أن يكون عبد الله بن سلام دسيسة
على الإسلام والمسلمين ، وأن يكون قد أسلم خِداعاً لينفث سمومه ، ولو كان
كذلك لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول المخدوعين فيه يوم أن جاءه
مسلماً ، وقصته معروفة مشهورة مع قومه من اليهود .
ثم
معاذ الله لو خُدِع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه أول الأمر ، أن
يظل مخدوعاً وأن يتخلى الله عن نبيه فلا ينبهه على ذلك ، في الوقت الذي
يتنزل عليه القرآن صباح مساء ، ويكشف له كثيراً من أحوال المنافقين
وخباياهم .
وأما
ما صح عنه من بعض الروايات الإسرائيلية فلا تغض من شأنه وعلمه ، فإنها على
قلتها لا تعدو أن تكون من قبيل ما أذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في
روايته ، ولا يمكن أن تخدش في عدالته ، أو تضعف الثقة فيه ، وإلا لما
اعتمده البخاري وغيره من أهل الحديث .
وما
نسب إليه كذباً من إسرائيليات بقصد ترويجها فليس ذنبه بل ذنب من نسبها
إليه ، وكم وضع الوضاعون من أحاديث ونسبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ، وهو خير منه ، فما حط ذلك من قدره ، ولا غض من مقامه .
وأما كعب الأحبار فهو من التابعين الأخيار ، وقد أخرج له البخاري و مسلم وغيرهما ، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام ، واتفقت كلمة نقاد الحديث على توثيقه ، فترجم له النووي في تهذيبه بقوله : " اتفقوا على كثرة علمه وتوثيقه " أهـ ، ولذا لا تجد له ذكراً في كتب الضعفاء والمتروكين.
والمتتبع
لحياة كعب في الإسلام ، ومقالات أعلام الصحابة فيه ، ومن تحمل منهم عنه
وروى له ، ومن أخرج له من شيوخ الحديث في مصنفاتهم ، يجد ما يدحض هذه
الفرية ويرد هذه التهمة ، ويشهد للرجل بقوة دينه ، وصدق يقينه ، وأنه طوى
قلبه على الإسلام المحض ، والدين الخالص ، لا على أنه دسيسة يهودية تستر
بالإسلام - كما زعم الزاعمون - .
ولا يعكر عليه قول معاوية في حقه - كما في الصحيح - : " إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب " .
فهذا الكلام لا يخدش في ثقة كعب وعدالته ،بل إن في ذلك تزكية من معاوية وثناء عليه بأنه أصدق المحدثين عن أهل الكتاب ، وقول معاوية
: " وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب " ، لا يراد منها اتهامه بالكذب ،
وإنما المقصود أن في بعض الأخبار التي ينقلها بأمانة ما لا يطابق الواقع ،
فالكذب حينئذ مضاف إلى تلك الكتب التي ينقل عنها لا إلى كعب ، وهو نحو قول ابن عباس في حقه " بدل من قبله فوقع في الكذب " .
وبهذا التوجيه وجه أئمة النقد والرجال عبارة معاوية فقال ابن حبان في الثقات : " أراد معاوية أنه يخطئ أحياناً فيما يخبر به ولم يرد أنه كان كذاباً " ، وقال ابن الجوزي
: " المعنى أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذباً ، لا أنه
كان يتعمد الكذب ، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار " ، وقال ابن كثير
في تفسيره : " يعني فيما ينقله ، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه ،
ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق
، ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
شيء منها بالكلية ، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض " أهـ .
وأما وهب بن منبه فهو من خيار التابعين وثقاتهم ، أخرج له البخاري و مسلم ، ولا يُعلم أحد من أئمة هذا الشأن طعن فيه بأنه وضاع ودسَّاس ، بل رأيناهم يوثقونه ، فقد وثقه أبو زرعة و النسائي و العجلي ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الذهبي : " كان ثقة صادقاً كثير النقل من كتب الإسرائيليات " .
ولسنا ننكر رواية كعب وو هب وغيرهما
للإسرائيليات ، فذلك أمر تنطق به كتب التفسير والحديث التي تعنى بسرد
الإسرائيليات : ولكن يجب قبل أن نجازف بالحكم عليهم أن نأخذ بعين الاعتبار
أمرين هامين :
الأمر
الأول : أن ما رووه من أخبار بني إسرائيل ، لم يسندوه إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ، ولم يكذبوا فيه على أحد من المسلمين ، وإنما كانوا
يروونه على أنه من الإسرائيليات ، ويحكونه غير مصدقين له ، بل كان موقفهم
منها كموقف الصحابة رضي الله عنهم ، فما جاء على وفق شرعنا صدقوه ، وما
خالفه كذبوه ، وما لم يوافق أو يخالف شرعنا توقفوا فيه وردوا فيه علمه إلى
الله عز وجل .
الأمر
الآخر : أنه ليس كل ما ينسب إليهم صحيحاً ، فقد اختلق الوضاعون عليهم
أشياء كثيرة ، فاتخذوهم مطية لترويج الكذب وإذاعته بين الناس ، مستغلين
شهرتهم العلمية الواسعة بما في كتب أهل الكتاب ، ثم تناقل هذه الأخبار بعض
القصاص والمؤرخين والأدباء ، وبعض المفسرين على أنها حقائق ، من غير أن
يتثبتوا من صحة نسبتها إلى من عزيت له .
يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله : " وبعض أهل عصرنا تكلم فيه - يقصد وهب بن منبه -
عن جهل ، ينكرون أنه يروي الغرائب عن الكتب القديمة ، وما في هذا بأس ، إذ
لم يكن ديناً ، ثم أنى لنا أن نوقن بصحة ما روي عنه من ذلك وأنه هو الذي
رواه وحدَّث به " .أهـ .
فهل
بعد هذا كله نقبل كلام " جولد زيهر " ومن مشى في ركابه ، ونعرض عن كلام
أئمة الإسلام ، وجهابذة المحدثين والنقاد ، الذين وثقوا هؤلاء الرواة ،
وخرجوا أحاديثهم في كتبهم التي تلقتها الأمة بالقبول جيلاً بعد جيل ، فضلاً
عن أن نتهمهم بالمكر والدهاء والكيد للإسلام وأهله ، اللهم إنا نبرأ إليك
من ذلك .